القديس مـار يـعـقـوب الـرهـاوي ـ بقلم قداسة سيدنا البطريرك المعظم مار إغناطيوس زكا الأول عيواص الكلي الطوبى
صفحة 1 من اصل 1
القديس مـار يـعـقـوب الـرهـاوي ـ بقلم قداسة سيدنا البطريرك المعظم مار إغناطيوس زكا الأول عيواص الكلي الطوبى
يُصنَّف يعقوب الرهاوي في مقدمة علماء السريان الفطاحل في علم الإلهيات، وتفسير الكتاب المقدس، والترجمة، والفلسفة، والفقه البيعي، والتاريخ والأدب، واللغة، والنحو وغيرها من العلوم.
قال عنه المستشرق أنطون بومشترك:
«إن ما اشتملت عليه تصانيفه المنثورة من صنوف العلوم كالنحو والفلسفة والعلوم الطبيعية وقد بلغت من الدقة والجودة الغاية، وما انطوت عليه من فنون المقالات، يدع لنا مجالا لنحكم ان السريان كانوا في هذه الابواب أعلى كعباً من الغربيين».
وكان مبرزا في اللغات: السريانية واليونانية والعبرية وكانت له قدرة فائقة على الترجمة، وفضله في ذلك معروف، حيث أن التراجمة السريان الذين سبقوه كانوا يعنون بالترجمة الحرفية، أما معاصروه فقد تعودوا العرف العلمي، وفضلوا المعنى على اللفظ، وذلك بفضل ما استنبطه هو وخدينه البطريرك أثناسيوس البلدي (+686) من اسلوب جديد في الترجمة وما ابتكره معلمهما العلامة مار ساويرا سابوخت من طريقة فضلى في نقل العلوم الفلسفية من اليونانية إلى السريانية.
وكان مراسلاً لطلاب كثيرين التمسوا مساعدته بمواضيع دينية وعلمية ولغوية مختلفة، ولذلك ولأهمية أعماله اللغوية في دراسة الأسفار المقدسة قال عنه المستشرق وليم رايت: «يعتبر يعقوب الرهاوي في أدب بلاده كهيرونيموس بين آباء اللاتين ولكثرة أتعابه في خدمة الإنسانية والعلم والمعرفة، أُطلق عليه «محب الأتعاب».
ويجمع بومشترك ودوفال ورايت ونولدكه وغيرهم من المستشرقين الذين كتبوا في الأدب السرياني، أن مار يعقوب الرهاوي هو أشهر مَن نبغ في الدور المعروف في تاريخ الأدب السرياني بالدور العربي، يوم نضج الفكر السرياني، وبلغ عصره الذهبي حيث زهت العلوم والآداب والفنون وظهرت ثمار تلامذة مدرستي الرها ونصيبين يانعة.
وكان منفتحاً على العرب المسلمين، قال عنه الأستاذ أحمد أمين ما يلي: «واشتهر من هؤلاء (السريانيين) في العصر الأموي يعقوب الرهاوي (640 ـ708م تقريباً) وقد ترجم كثيراً من كتب الإلهيات اليونانية. وليعقوب هذا أثر كبير الدلالة، فقد أثر عنه أنه أفتى رجال الدين من النصارى بأنه يحل لهم أن يعلّموا أولاد المسلمين التعليم الراقي، وهذه الفتوى تدلّ من غير شك على إقبال بعض المسلمين في ذلك العصر على دراسة الفلسفة عليهم، وتردد النصارى أولاً في تعليمهم».
حياته:
ولد في حدود سنة 633م في قرية عيندابا التابعة لولاية أنطاكية، وتهذّب في صباه في مدرسة القرية، ثم التحق بدير قنسرين ولبس ثوب الرهبانية، ودرس على الفيلسوف الكبير مار ساويرا سابوخت، آداب اللغة اليونانية، وتعمق في الفلسفة واللاهوت ثم رحل إلى الإسكندرية لإتمام دراسته الفلسفية واللغوية، ثم عاد إلى سورية وتنسك في الرها ورسم كاهناً. وفي سنة 684 رسمه رفيقه أثناسيوس الثاني البلدي البطريرك الأنطاكي (684ـ687) مطراناً على الرها فنسب إليها. وأقام فيها أربع سنوات. ولغيرته الوقادة على مراعاة القوانين البيعية، ورغبته الملحّة في إعادة النظام إلى أديرة أبرشيته، قاومه بعض الرهبان والإكليروس فجردهم من رتبهم، مخالفاً بذلك رأي البطريرك يوليانس وغيره من الأساقفة الذين كانوا يريدون التساهل بحفظ القوانين تبعاً لمقتضيات العصر. ويذكر عنه أنه جمع كتب القوانين البيعية أمام باب الدير الذي كان البطريرك حالاً فيه وأحرقها وهو يصرخ ويقول: ها أنذا أحرق القوانين التي تطأونها بأقدامكم ولم توجبوا حفظها وقد صارت لديكم من قبل الزيادة التي لا تجدي نفعاً. وهكذا استقال عن خدمة الأبرشية ومضى فسكن في دير مار يعقوب في كشوم بقرب شميشاط، يرافقه تلميذاه دانيال وقسطنطين. ثم انتقل إلى دير أوسيبونا في كورة أنطاكية حيث أقام إحدى عشرة سنة يدرّس رهبانه اللغة اليونانية، ثم قصد دير تلعدا شمال غربي حلب حيث مكث قرابة تسع سنوات يراجع ترجمة العهد القديم من الكتاب المقدس، وفي تلك الأثناء توفي المطران حبيب، خليفة مار يعقوب في كرسي أبرشية الرها، فالتمس الرهاويون منه ليعود إلى أبرشيته فعاد. وبعد مكثه فيها أربعة أشهر، ذهب إلى دير تلعدا ليأتي بكتبه، فوافته المنية هناك في 5 حزيران سنة 708 ودفن في الدير المذكور.
مصنفاته:
ترك مار يعقوب الرهاوي ما ينيف على ثلاثين كتاباً من وضعه، أو ترجمته، أو تنقيحه ومراجعته. وفيما يلي أهم تلك التآليف:
أولاً: في الكتاب المقدس وعلومه: قال بومشترك: لقد وجد كتاب اللّـه في يعقوب الرهاوي أكبر لاهوتي في اللغة السريانية يدل على هذا ما حوته مصنفات له شتى. وأشهر دراساته في الكتاب هي:
1 ـ مراجعته منقحاً الترجمة المعروفة بالبسيطة، مقسماً إياها إلى فصول، واضعاً في مقدمة كل فصل ملخصاً لمحتوياته، وفي الهامش شرحاً للكلمات الصعبة، كما ضبط اللفظ الصحيح، وله ضوابط ألفاظ أسفار العهدين ألحق بها ضوابط مصنفات آباء النصرانية المشاهير.
2 ـ تفسيره الكتاب المقدس آية آية وفقاً للنص اليوناني، وقد لُقب مار يعقوب «بمفسر الكتب»، واستشهد بتفاسيره مار ديونيسيوس يعقوب ابن الصليبي مطران آمد (+1171) ومار غريغوريوس يوحنا ابن العبري مفريان المشرق (+1286).
ثانياً: العقائدية:
1 ـ نقل عن اليونانية إلى السريانية مواعظ مار سويريوس الأنطاكي (+538) وفرغ من ذلك سنة 701م.
2 ـ كتب رسالة في أعمال السيد المسيح مؤيدة بأقوال الأنبياء والرسل والمعلمين، وقد أورد نبذة من حياة كل منهم بعد إيراد أقوالهم.
3 ـ له كتاب عنوانه «العلة الأولى الخالقة الأزلية القادرة على كل شيء غير المخلوق وهي اللّـه حافظ الكل» ذكره جرجس أسقف العرب وهو ضائع.
4 ـ ألف في أواخر أيامه كتاباً ممتعاً، قيماً أسماه «أيام الخليقة الستة»، وقد أكمله صديقه جرجس أسقف العرب بعد وفاته.
ثالثاً: الفلسفية:
1 ـ له كتاب أسماه (انكيريديون) أي المختصر وهو مجموعة العبارات المصطلح عليها في الفلسفة، ويعتبر أهم كتبه الفلسفية، وفيه يفسر خاصة الألفاظ الفلسفية المستعملة في علم اللاهوت كجوهر وذات وأقنوم.
2 ـ ترجم كتاب مقولات أرسطو إلى السريانية مع شروح وحواش كثيرة علقها عليه.
رابعاً: التاريخية:
في نحو سنة 692م نقح تاريخ أوسابيوس القيصري (265ـ340م) إمام المؤرخين، وصحح فيه حساب السنين، وأكمله مبتدئا من السنة العشرين من حكم قسطنطين الملك وحتى عصره هو. وزاد عليه كاتب مجهول فأوصله حتى سنة 710م، ولم يبق منه سوى نتف، وقد استند إلى هذا التاريخ البطريرك مار ميخائيل الكبير (+1199) في تاريخه المشهور واستعان به أيضاً برشينايا أسقف نصيبين (+1046).
خامساً: الفقهية:
كان يعقوب الرهاوي حريصاً على حفظ القوانين البيعية وفي الوقت نفسه تناول هذه القوانين درساً وتمحيصاً فنقل كتب القوانين المنحولة إلى اقليميس الروماني وأولها كتاب عهد ربنا الموضوع في القرن الخامس، كما نقل قوانين مجمع قرطاجنة الأول، وقوانين المجامع المسكونية الثلاثة، وسنَّ ما يقارب مئة وستة وستين قانوناً كنسياً جاءت بصورة أجوبة على أسئلة وجهت إليه من معاصريه، ضمّت بعضها إلى كتاب الهدايات لابن العبري (+1286).
سادساً: الطقسية:
قال العلامة البطريرك أفرام الأول برصوم: «وفضله (أي مار يعقوب الرهاوي) على الفروض الكنسية فاق أفضال الآباء الملافنة». ومن أهم أعماله الطقسية:
1 ـ تنقيحه ليتورجية يعقوب أخي الرب وتصحيحها على الأصل اليوناني. ونقل ليتورجية مار إغناطيوس النوراني إلى السريانية.
2 ـ وضعه ليتورجية بالسريانية.
3 ـ ترتيبه صلوات الفرض الأسبوعي المعروف بالإشحيم، كما رتب فناقيث الآحاد والأعياد.
4 ـ تنظيمه كلنداراً لأيام الأعياد على مدار السنة.
5 ـ تصحيحه كتاب جناز الموتى.
6 ـ نقله من اليونانية إلى السريانية الحسايات التي وضعها مار سويريوس الأنطاكي (+538) عن العماد.
7 ـ وضعه كتاباً سماه (الكنوز) حوى طقوس العماد والزواج وتبريك الماء لعيد الغطاس (أي عيد عماد السيد المسيح).
8 ـ له رسالة في تفسير رتبة القداس عند السريان كتبها إلى توما الكاهن.
9 ـ تصحيحه ترجمة معانيث مار سويريوس الأنطاكي. ويعتبر مار يعقوب الرهاوي شاعراً بارعاً، وله ميامر ومداريش ضمّ بعضها إلى طقوس أسبوع الآلام باسمه. وله عشر مقالات في الشعانين.
سابعاً: اللغوية:
أخذ السريان قواعد لغتهم نقلاً عن طريق المشافهة من آبائهم، دون الاستناد إلى أصول في النحو، حتى القرن السادس للميلاد حيث ابتدأ بعضهم يؤلف في نحو اللغة وجمع مفرداتها وقاية لها من الفساد والضياع بسبب اختلاطهم بالروم. وقد أولى مار يعقوب عنايته الكبرى بلغته السريانية الحبيبة فنقاها من الألفاظ الأعجمية وأصلحها وردها إلى فصاحتها. ووضع كتاباً مهماً جداً سماه (غراماطيقي) وهو أول مؤلف في النحو السرياني، وعدّ مار يعقوب لذلك واضع هذا العلم لدى السريان.
ولا يغرب عن بالنا أن مار أحودامه (+559) ويوسف الأهوازي (+580) وعنان يشوع (+650) قد كتبوا في النحو قبل الرهاوي، ولكن كتبهم هذه ضاعت ولم يبق منها سوى نتف لا تروي غليلاً ولا تغني فتيلاً. أما كتاب الرهاوي فقد استعمله السريان كثيراً في التدريس، لذلك عده السريان أول كتاب في النحو لديهم واعتبر مار يعقوب كما ذكرنا آنفاً واضع علم النحو السرياني. ويشبهه بعضهم بأبي الأسود الدؤلي (المتوفي سنة 688م) واضع علم النحو في العربية.
وعلى غرار مار يعقوب ألف علماء لغويون ومنه اقتبسوا، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر ابن العبري (+1286) الذي أشار إليه ونقل عنه نبذاً قيمة في كتابه الموسوم بالأضواء (صمحي). وقد ضاع كتاب الرهاوي ولم يبق منه سوى شذرات يعود تاريخ نسخها إلى القرن التاسع أو العاشر. كتبت بخط جيد ولكن معالم الكتابة قد زالت تقريباً. لذلك قرئت بالاستعانة بالمواد الكيمياوية وطبعت بعد ذلك، وتحتوي على نقاط قيمة في النحو السرياني وفيها يوضح مار يعقوب طريقته الجديدة في علامات الحركات. وقد رأينا أن نتناول دراسة رأيه في تشكيل الحروف السريانية فيما يلي باختصار.
علامات الحركات السريانية لدى الرهاوي:
كانت اللغة السريانية حتى أواخر القرن السابع للميلاد تُكتب بدون تشكيل، ثم استعمل السريان حروف العلة الثلاثة: الألف والواو والياء كحركات لضبط اللفظ ولكن هذه الطريقة كثيراً ما تربك القارئ حيث لا يميز فيما إذا كانت الحروف قد استعملت في الكلمة كحركة أم حرف.
أما التنقيط فقد استعمل قبل القرن السابع كتشكيل للكلمات، وليعقوب الرهاوي رسالة في ذلك يوضح فيها طريقة وضع النقط تحت الحرف أو فوقه ضبطاً للمعاني وتمييزاً بين المرادفات وما إليها. ولعل السريان الغربيين هم الذين استنبطوا طريقة التنقيط لأنها لا تشتمل على الشدة المستعملة في لهجة السريان الشرقيين، ولا يزال السريان الغربيون يستعملون أحياناً طريقة التنقيط القديمة. وهي الطريقة الوحيدة في ضبط اللغة لدى السريان الشرقيين.
وقد استنبط مار يعقوب علامات الحركات آخذاً بعضها عن اليونانية التي كان يجيدها حيث أنه رأى أن جميع أصوات الصوائت السريانية كما ينطقها الرهاويون يمكن أن تمثلها حروف يونانية، وكطريقة للإشارة يمكن أن تكون أكثر وضوحاً للقارئ من مجموعة النقط الصغيرة، فأخذ من اليونانية حرف الألف وجعله للفتح، والهاء للكسر، والعين مع الواو للضم، والحاء للكسر المشبع، والعين وحدها للضم الممال إلى الفتح، وجعل صورة هذه الحروف اليونانية صغيرة. وكان أسلوبه في تشكيل الكلمات كتابة الحركات (الحروف الصوائت) مع الحروف الصوامت على السطر، ولم يكتب لهذه الطريقة البقاء طويلاً، وتطورت بعدئذ فوضعت الصوائت كعلامات صغيرة فوق الحروف أو تحتها. كما أن السريان الغربيين لم يتركوا طريقة التنقيط بل سارت الطريقتان جنباً إلى جنب أجيالاً عديدة، ثم فضلت الحركات لوضوحها وسهولتها فاستعاض السريان بها عن التنقيط.
وقد نسب بعضهم إلى ثاوفيل الرهاوي (+785) مترجم الإلياذة إلى السريانية، ابتكار الحركات السريانية لضبط أسماء الأعلام اليونانية، ولكن المستشرقين وايزمن ونولدكه ورايت وسواهم أيدوا نسبتها إلى مار يعقوب الرهاوي وبخاصة أن في المتحف البريطاني مخطوطاً خطّ على عهد الرهاوي (+708) ـ ولعل الرهاوي نفسه كتبه بخط يده ـ وردت فيه الحروف اليونانية الصوتية مستعملة في تشكيل الكلمات السريانية هذا مع العلم بأن ثاوفيل الرهاوي قد توفي بعد مار يعقوب الرهاوي بثمانين سنة تقريبا. فمبتكر الحركات السريانية إذن هو مار يعقوب الرهاوي لا غيره.
ولا بد أن نذكر هنا أن الحركات الخمس لدى السريان الغربيين تشمل الحركات الثماني، ذلك أن كل حركة جاء بعدها حرف ساكن لفظت بإطباق وإذا جاء بعدها حرف متحرك لفظت بإشباع، وهكذا تتميز الحركة الطويلة من القصيرة.
وكان مار يعقوب يحاول إصلاح الحروف السريانية أيضاً ويظهر لنا من رسالة كتبها إلى بولس قسيس أنطاكية أنه أراد تطوير الحروف وإصلاح الكتابة السريانية، ولكن السريان لم يكونوا على استعداد لقبول هذا التطور في لغتهم لذلك يقول لبولس: «لقد رغب كثيرون قبلي وقبلك في هذا ولكن خشية ضياع الكتب القديمة المدونة بهذه الحروف الناقصة هي التي أعاقتهم عن هذه الاستفادة».
وله رسالة إلى جرجس أسقف سروج في الخط السرياني وضبط الإملاء والألفاظ يوصي بها النساخ بالأمانة في النقل.
قال عنه المستشرق أنطون بومشترك:
«إن ما اشتملت عليه تصانيفه المنثورة من صنوف العلوم كالنحو والفلسفة والعلوم الطبيعية وقد بلغت من الدقة والجودة الغاية، وما انطوت عليه من فنون المقالات، يدع لنا مجالا لنحكم ان السريان كانوا في هذه الابواب أعلى كعباً من الغربيين».
وكان مبرزا في اللغات: السريانية واليونانية والعبرية وكانت له قدرة فائقة على الترجمة، وفضله في ذلك معروف، حيث أن التراجمة السريان الذين سبقوه كانوا يعنون بالترجمة الحرفية، أما معاصروه فقد تعودوا العرف العلمي، وفضلوا المعنى على اللفظ، وذلك بفضل ما استنبطه هو وخدينه البطريرك أثناسيوس البلدي (+686) من اسلوب جديد في الترجمة وما ابتكره معلمهما العلامة مار ساويرا سابوخت من طريقة فضلى في نقل العلوم الفلسفية من اليونانية إلى السريانية.
وكان مراسلاً لطلاب كثيرين التمسوا مساعدته بمواضيع دينية وعلمية ولغوية مختلفة، ولذلك ولأهمية أعماله اللغوية في دراسة الأسفار المقدسة قال عنه المستشرق وليم رايت: «يعتبر يعقوب الرهاوي في أدب بلاده كهيرونيموس بين آباء اللاتين ولكثرة أتعابه في خدمة الإنسانية والعلم والمعرفة، أُطلق عليه «محب الأتعاب».
ويجمع بومشترك ودوفال ورايت ونولدكه وغيرهم من المستشرقين الذين كتبوا في الأدب السرياني، أن مار يعقوب الرهاوي هو أشهر مَن نبغ في الدور المعروف في تاريخ الأدب السرياني بالدور العربي، يوم نضج الفكر السرياني، وبلغ عصره الذهبي حيث زهت العلوم والآداب والفنون وظهرت ثمار تلامذة مدرستي الرها ونصيبين يانعة.
وكان منفتحاً على العرب المسلمين، قال عنه الأستاذ أحمد أمين ما يلي: «واشتهر من هؤلاء (السريانيين) في العصر الأموي يعقوب الرهاوي (640 ـ708م تقريباً) وقد ترجم كثيراً من كتب الإلهيات اليونانية. وليعقوب هذا أثر كبير الدلالة، فقد أثر عنه أنه أفتى رجال الدين من النصارى بأنه يحل لهم أن يعلّموا أولاد المسلمين التعليم الراقي، وهذه الفتوى تدلّ من غير شك على إقبال بعض المسلمين في ذلك العصر على دراسة الفلسفة عليهم، وتردد النصارى أولاً في تعليمهم».
حياته:
ولد في حدود سنة 633م في قرية عيندابا التابعة لولاية أنطاكية، وتهذّب في صباه في مدرسة القرية، ثم التحق بدير قنسرين ولبس ثوب الرهبانية، ودرس على الفيلسوف الكبير مار ساويرا سابوخت، آداب اللغة اليونانية، وتعمق في الفلسفة واللاهوت ثم رحل إلى الإسكندرية لإتمام دراسته الفلسفية واللغوية، ثم عاد إلى سورية وتنسك في الرها ورسم كاهناً. وفي سنة 684 رسمه رفيقه أثناسيوس الثاني البلدي البطريرك الأنطاكي (684ـ687) مطراناً على الرها فنسب إليها. وأقام فيها أربع سنوات. ولغيرته الوقادة على مراعاة القوانين البيعية، ورغبته الملحّة في إعادة النظام إلى أديرة أبرشيته، قاومه بعض الرهبان والإكليروس فجردهم من رتبهم، مخالفاً بذلك رأي البطريرك يوليانس وغيره من الأساقفة الذين كانوا يريدون التساهل بحفظ القوانين تبعاً لمقتضيات العصر. ويذكر عنه أنه جمع كتب القوانين البيعية أمام باب الدير الذي كان البطريرك حالاً فيه وأحرقها وهو يصرخ ويقول: ها أنذا أحرق القوانين التي تطأونها بأقدامكم ولم توجبوا حفظها وقد صارت لديكم من قبل الزيادة التي لا تجدي نفعاً. وهكذا استقال عن خدمة الأبرشية ومضى فسكن في دير مار يعقوب في كشوم بقرب شميشاط، يرافقه تلميذاه دانيال وقسطنطين. ثم انتقل إلى دير أوسيبونا في كورة أنطاكية حيث أقام إحدى عشرة سنة يدرّس رهبانه اللغة اليونانية، ثم قصد دير تلعدا شمال غربي حلب حيث مكث قرابة تسع سنوات يراجع ترجمة العهد القديم من الكتاب المقدس، وفي تلك الأثناء توفي المطران حبيب، خليفة مار يعقوب في كرسي أبرشية الرها، فالتمس الرهاويون منه ليعود إلى أبرشيته فعاد. وبعد مكثه فيها أربعة أشهر، ذهب إلى دير تلعدا ليأتي بكتبه، فوافته المنية هناك في 5 حزيران سنة 708 ودفن في الدير المذكور.
مصنفاته:
ترك مار يعقوب الرهاوي ما ينيف على ثلاثين كتاباً من وضعه، أو ترجمته، أو تنقيحه ومراجعته. وفيما يلي أهم تلك التآليف:
أولاً: في الكتاب المقدس وعلومه: قال بومشترك: لقد وجد كتاب اللّـه في يعقوب الرهاوي أكبر لاهوتي في اللغة السريانية يدل على هذا ما حوته مصنفات له شتى. وأشهر دراساته في الكتاب هي:
1 ـ مراجعته منقحاً الترجمة المعروفة بالبسيطة، مقسماً إياها إلى فصول، واضعاً في مقدمة كل فصل ملخصاً لمحتوياته، وفي الهامش شرحاً للكلمات الصعبة، كما ضبط اللفظ الصحيح، وله ضوابط ألفاظ أسفار العهدين ألحق بها ضوابط مصنفات آباء النصرانية المشاهير.
2 ـ تفسيره الكتاب المقدس آية آية وفقاً للنص اليوناني، وقد لُقب مار يعقوب «بمفسر الكتب»، واستشهد بتفاسيره مار ديونيسيوس يعقوب ابن الصليبي مطران آمد (+1171) ومار غريغوريوس يوحنا ابن العبري مفريان المشرق (+1286).
ثانياً: العقائدية:
1 ـ نقل عن اليونانية إلى السريانية مواعظ مار سويريوس الأنطاكي (+538) وفرغ من ذلك سنة 701م.
2 ـ كتب رسالة في أعمال السيد المسيح مؤيدة بأقوال الأنبياء والرسل والمعلمين، وقد أورد نبذة من حياة كل منهم بعد إيراد أقوالهم.
3 ـ له كتاب عنوانه «العلة الأولى الخالقة الأزلية القادرة على كل شيء غير المخلوق وهي اللّـه حافظ الكل» ذكره جرجس أسقف العرب وهو ضائع.
4 ـ ألف في أواخر أيامه كتاباً ممتعاً، قيماً أسماه «أيام الخليقة الستة»، وقد أكمله صديقه جرجس أسقف العرب بعد وفاته.
ثالثاً: الفلسفية:
1 ـ له كتاب أسماه (انكيريديون) أي المختصر وهو مجموعة العبارات المصطلح عليها في الفلسفة، ويعتبر أهم كتبه الفلسفية، وفيه يفسر خاصة الألفاظ الفلسفية المستعملة في علم اللاهوت كجوهر وذات وأقنوم.
2 ـ ترجم كتاب مقولات أرسطو إلى السريانية مع شروح وحواش كثيرة علقها عليه.
رابعاً: التاريخية:
في نحو سنة 692م نقح تاريخ أوسابيوس القيصري (265ـ340م) إمام المؤرخين، وصحح فيه حساب السنين، وأكمله مبتدئا من السنة العشرين من حكم قسطنطين الملك وحتى عصره هو. وزاد عليه كاتب مجهول فأوصله حتى سنة 710م، ولم يبق منه سوى نتف، وقد استند إلى هذا التاريخ البطريرك مار ميخائيل الكبير (+1199) في تاريخه المشهور واستعان به أيضاً برشينايا أسقف نصيبين (+1046).
خامساً: الفقهية:
كان يعقوب الرهاوي حريصاً على حفظ القوانين البيعية وفي الوقت نفسه تناول هذه القوانين درساً وتمحيصاً فنقل كتب القوانين المنحولة إلى اقليميس الروماني وأولها كتاب عهد ربنا الموضوع في القرن الخامس، كما نقل قوانين مجمع قرطاجنة الأول، وقوانين المجامع المسكونية الثلاثة، وسنَّ ما يقارب مئة وستة وستين قانوناً كنسياً جاءت بصورة أجوبة على أسئلة وجهت إليه من معاصريه، ضمّت بعضها إلى كتاب الهدايات لابن العبري (+1286).
سادساً: الطقسية:
قال العلامة البطريرك أفرام الأول برصوم: «وفضله (أي مار يعقوب الرهاوي) على الفروض الكنسية فاق أفضال الآباء الملافنة». ومن أهم أعماله الطقسية:
1 ـ تنقيحه ليتورجية يعقوب أخي الرب وتصحيحها على الأصل اليوناني. ونقل ليتورجية مار إغناطيوس النوراني إلى السريانية.
2 ـ وضعه ليتورجية بالسريانية.
3 ـ ترتيبه صلوات الفرض الأسبوعي المعروف بالإشحيم، كما رتب فناقيث الآحاد والأعياد.
4 ـ تنظيمه كلنداراً لأيام الأعياد على مدار السنة.
5 ـ تصحيحه كتاب جناز الموتى.
6 ـ نقله من اليونانية إلى السريانية الحسايات التي وضعها مار سويريوس الأنطاكي (+538) عن العماد.
7 ـ وضعه كتاباً سماه (الكنوز) حوى طقوس العماد والزواج وتبريك الماء لعيد الغطاس (أي عيد عماد السيد المسيح).
8 ـ له رسالة في تفسير رتبة القداس عند السريان كتبها إلى توما الكاهن.
9 ـ تصحيحه ترجمة معانيث مار سويريوس الأنطاكي. ويعتبر مار يعقوب الرهاوي شاعراً بارعاً، وله ميامر ومداريش ضمّ بعضها إلى طقوس أسبوع الآلام باسمه. وله عشر مقالات في الشعانين.
سابعاً: اللغوية:
أخذ السريان قواعد لغتهم نقلاً عن طريق المشافهة من آبائهم، دون الاستناد إلى أصول في النحو، حتى القرن السادس للميلاد حيث ابتدأ بعضهم يؤلف في نحو اللغة وجمع مفرداتها وقاية لها من الفساد والضياع بسبب اختلاطهم بالروم. وقد أولى مار يعقوب عنايته الكبرى بلغته السريانية الحبيبة فنقاها من الألفاظ الأعجمية وأصلحها وردها إلى فصاحتها. ووضع كتاباً مهماً جداً سماه (غراماطيقي) وهو أول مؤلف في النحو السرياني، وعدّ مار يعقوب لذلك واضع هذا العلم لدى السريان.
ولا يغرب عن بالنا أن مار أحودامه (+559) ويوسف الأهوازي (+580) وعنان يشوع (+650) قد كتبوا في النحو قبل الرهاوي، ولكن كتبهم هذه ضاعت ولم يبق منها سوى نتف لا تروي غليلاً ولا تغني فتيلاً. أما كتاب الرهاوي فقد استعمله السريان كثيراً في التدريس، لذلك عده السريان أول كتاب في النحو لديهم واعتبر مار يعقوب كما ذكرنا آنفاً واضع علم النحو السرياني. ويشبهه بعضهم بأبي الأسود الدؤلي (المتوفي سنة 688م) واضع علم النحو في العربية.
وعلى غرار مار يعقوب ألف علماء لغويون ومنه اقتبسوا، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر ابن العبري (+1286) الذي أشار إليه ونقل عنه نبذاً قيمة في كتابه الموسوم بالأضواء (صمحي). وقد ضاع كتاب الرهاوي ولم يبق منه سوى شذرات يعود تاريخ نسخها إلى القرن التاسع أو العاشر. كتبت بخط جيد ولكن معالم الكتابة قد زالت تقريباً. لذلك قرئت بالاستعانة بالمواد الكيمياوية وطبعت بعد ذلك، وتحتوي على نقاط قيمة في النحو السرياني وفيها يوضح مار يعقوب طريقته الجديدة في علامات الحركات. وقد رأينا أن نتناول دراسة رأيه في تشكيل الحروف السريانية فيما يلي باختصار.
علامات الحركات السريانية لدى الرهاوي:
كانت اللغة السريانية حتى أواخر القرن السابع للميلاد تُكتب بدون تشكيل، ثم استعمل السريان حروف العلة الثلاثة: الألف والواو والياء كحركات لضبط اللفظ ولكن هذه الطريقة كثيراً ما تربك القارئ حيث لا يميز فيما إذا كانت الحروف قد استعملت في الكلمة كحركة أم حرف.
أما التنقيط فقد استعمل قبل القرن السابع كتشكيل للكلمات، وليعقوب الرهاوي رسالة في ذلك يوضح فيها طريقة وضع النقط تحت الحرف أو فوقه ضبطاً للمعاني وتمييزاً بين المرادفات وما إليها. ولعل السريان الغربيين هم الذين استنبطوا طريقة التنقيط لأنها لا تشتمل على الشدة المستعملة في لهجة السريان الشرقيين، ولا يزال السريان الغربيون يستعملون أحياناً طريقة التنقيط القديمة. وهي الطريقة الوحيدة في ضبط اللغة لدى السريان الشرقيين.
وقد استنبط مار يعقوب علامات الحركات آخذاً بعضها عن اليونانية التي كان يجيدها حيث أنه رأى أن جميع أصوات الصوائت السريانية كما ينطقها الرهاويون يمكن أن تمثلها حروف يونانية، وكطريقة للإشارة يمكن أن تكون أكثر وضوحاً للقارئ من مجموعة النقط الصغيرة، فأخذ من اليونانية حرف الألف وجعله للفتح، والهاء للكسر، والعين مع الواو للضم، والحاء للكسر المشبع، والعين وحدها للضم الممال إلى الفتح، وجعل صورة هذه الحروف اليونانية صغيرة. وكان أسلوبه في تشكيل الكلمات كتابة الحركات (الحروف الصوائت) مع الحروف الصوامت على السطر، ولم يكتب لهذه الطريقة البقاء طويلاً، وتطورت بعدئذ فوضعت الصوائت كعلامات صغيرة فوق الحروف أو تحتها. كما أن السريان الغربيين لم يتركوا طريقة التنقيط بل سارت الطريقتان جنباً إلى جنب أجيالاً عديدة، ثم فضلت الحركات لوضوحها وسهولتها فاستعاض السريان بها عن التنقيط.
وقد نسب بعضهم إلى ثاوفيل الرهاوي (+785) مترجم الإلياذة إلى السريانية، ابتكار الحركات السريانية لضبط أسماء الأعلام اليونانية، ولكن المستشرقين وايزمن ونولدكه ورايت وسواهم أيدوا نسبتها إلى مار يعقوب الرهاوي وبخاصة أن في المتحف البريطاني مخطوطاً خطّ على عهد الرهاوي (+708) ـ ولعل الرهاوي نفسه كتبه بخط يده ـ وردت فيه الحروف اليونانية الصوتية مستعملة في تشكيل الكلمات السريانية هذا مع العلم بأن ثاوفيل الرهاوي قد توفي بعد مار يعقوب الرهاوي بثمانين سنة تقريبا. فمبتكر الحركات السريانية إذن هو مار يعقوب الرهاوي لا غيره.
ولا بد أن نذكر هنا أن الحركات الخمس لدى السريان الغربيين تشمل الحركات الثماني، ذلك أن كل حركة جاء بعدها حرف ساكن لفظت بإطباق وإذا جاء بعدها حرف متحرك لفظت بإشباع، وهكذا تتميز الحركة الطويلة من القصيرة.
وكان مار يعقوب يحاول إصلاح الحروف السريانية أيضاً ويظهر لنا من رسالة كتبها إلى بولس قسيس أنطاكية أنه أراد تطوير الحروف وإصلاح الكتابة السريانية، ولكن السريان لم يكونوا على استعداد لقبول هذا التطور في لغتهم لذلك يقول لبولس: «لقد رغب كثيرون قبلي وقبلك في هذا ولكن خشية ضياع الكتب القديمة المدونة بهذه الحروف الناقصة هي التي أعاقتهم عن هذه الاستفادة».
وله رسالة إلى جرجس أسقف سروج في الخط السرياني وضبط الإملاء والألفاظ يوصي بها النساخ بالأمانة في النقل.
مواضيع مماثلة
» ذكرى تنصيب قداسة سيدنا البطريرك مار إغناطيوس زكا الأول عيواص الكلي الطوبى
» قداسة سيدنا البطريرك يدعو إلى انعقاد المجمع السرياني الأنطاكي المقدس
» 6 كانون الأول ـ عيد القديس مار نيقولاوس أسقف ميرا (سانتا كلوز)
» كنيسة القديس مار دودو
» كنيسة القديس مار دودو
» قداسة سيدنا البطريرك يدعو إلى انعقاد المجمع السرياني الأنطاكي المقدس
» 6 كانون الأول ـ عيد القديس مار نيقولاوس أسقف ميرا (سانتا كلوز)
» كنيسة القديس مار دودو
» كنيسة القديس مار دودو
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى